الزكاة في السودان

التطور التاريخي للزكاة في السودان:
المراحل التي مرت بها شعيرة الزكاة في السودان, كخلفية تاريخية لمسيرة الزكاة في السودان
أولا : الزكاة قبل الدولة المهدية:

(إن السودان تلك المساحة الشاسعة التي تمتد جنوبي مصر والتي اختلف المؤرخون في تحديدها ووضعها, مرت به عدة دول ذات عقائد مختلفة, ومساحات متباينة, وقد ظهرت أول دولتين إسلاميتين معا تقريبا, هما : السلطنة الزرقاء: التي امتدت في وسط وشرق وشمال السودان الحالي, وبعدها ظهرت مملكتا تقلي والمسبعات الإسلاميتان: ثم جاء العهد التركي الذي استمر حتى ظهور الثورة المهدية الجهادية, وسقوط الخرطوم سنة (1881م), ولم تسعفنا المراجع لنفصل القول في الزكاة في هذه الدولة الإسلامية, ولكن يفترض أن الزكاة كانت تطبق بالرغم مما شابها من تقصير وظلم)(1).
وبهذا يخلص الحديث إلى أن الزكاة كانت تطبق (في السودان) في العصر الذي سبق الدولة المهدية, أي أن أمرها كان أمرا سلطانيا.

ثانيا: الزكاة في الدولة المهدية:
(امتد حكم الدولة المهدية خلال الفترة: (1881م – 1898م) واتسمت الدولة المهدية بتحكيم شرع الله في كافة الجوانب, بما في ذلك الجانب الاقتصادي, فإيرادات الدولة كانت الزكاة والغنائم ومال الفيئ والعشور على السلع, وكما يقول المؤرخ السوداني الكبير مكي شبيكة: ( ولكن عصب الحياة في جسم المهدية هو الزكاة الشرعية على المحصولات والأنعام))(2).
بناء على ما تقدم يخلص فان الزكاة كانت تعتبر من أهم الموارد, بل تشكل عصب الحياة في جسم الدولة المهدية.
لقد : ( كان الامام المهدي وخليفته عبد الله , يرسلون الجباة لجمع الزكاة, حيث كانوا يرسلون الى كل جهة محددة جابيا محددا, بواسطة مرسوم يرسله الامام المهدي او خليفته وهذا يعني اهتمام الحاكم ومسؤوليته التنفيذية للزكاة)(3).
من الاقوال اعلاه يخلص الحديث الى ان امر الزكاة في الدولة المهدية , كان امرا سلطانيا , يقوم عليه امام المسلمين بنفسه .

تتلخص اهم ميزات تجربة الزكاة في الدولة المهدية فيما يلي :
1- ان تعيين الجباة كان يتم بواسطة الإمام المهدي شخصيا , ومن بعده خليفته عبد الله التعايشي , وهذا يدل على أهمية الأمر حيث ان الزكاة كانت تتبع لرأس الدولة مباشرة .
2- التزم بالقيد المكاني في صرف الزكاة , فكان المنشور الصادر من الإمام المهدي ثم من خليفته , يحدد الجهة تحديدا شاملا جباية وصرفا .
3- أنه يتم اختيار الثقة ,فينص على اسمه في ذات المنشور , ويؤمر فيه بتقوى الله وأن الجابي لا يحق له أن يجمع الزكاة الا إن كان معه أمر مختوم بختم رأس الدولة .
4- يحدد المنشور المذهب الفقهي الواجب التطبيق , ويفصل ذلك بنماذج .
5- إنه كان هناك نظام إداري دقيق لبيت المال ,وقد قسم الى وحدات متخصصة, أهمها بيت مال العموم, وكان دخله الرئيسي من الزكاة ,وله أفرع في كل الأقاليم , وكانت الزكاة تدار في الاحياء عن طريق أمين لخدمة جمع الزكاة ,يساعده كاتب ومتحصل .
6- كانت حسابات بيت المال عامة ,والزكاة خاصة سرية ,تسجل بواسطة إشارات متعارف عليها توضح الكمية والقيمة) (4).
مما سبق نخلص إلى أن الزكاة طيلة فترة الثورة المهدية وما قبلها, كانت تطبق, ويتم ذلك بواسطة الدولة, أي أن أمر الزكاة كان أمرا سلطانيا.

ثالثا : تجربة صندوق الزكاة:
لابد أن نشير إشارة مختصرة , للفترة التي سبقت تجربة صندوق الزكاة , فمن المعلوم ان السودان مر بفترة الاستعمار, بين الأعوام (1898م – 1956م), حيث دخل الجيش الانكليزي المصري , بقيادة كتشنر, واستولى على الحكم في البلاد بعد معركة كرري, التي استشهد فيها أعداد كبيرة من الأنصار, وأقام الاستعمار نظامه على أساس فصل الدين عن الدولة , ثم جاء العهد الوطني بعد الاستقلال في العام (1956م) وسار العهد الوطني على ما سار علية الاستعمار, فلم يطبق شعيرة الزكاة في البلاد, وأصبحت هذه الشعيرة, شعيرة تعبدية, لا تأخذ البعد السلطاني, لكن كما هو معلوم فإن ذلك لا يعني أن هذه الشعيرة وهذا الركن, قد أنهدم عند المسلمين في السودان, ولكن ظل تنفيذ الزكاة بصورة فردية, يؤديه ذوي الحس الديني, والوازع الإيماني , دون تدخل من الجانب السلطاني.
بعد انقضاء فترة الاستعمار وفترة الحكم الوطني , اللتين اتسمتا بابتعاد الجانب السلطاني عند التدخل في أمر شعيرة الزكاة, جاءت مرحلة جديدة, هي مرحلة صندوق الزكاة الذي أنشأ بموجب قانون صندوق الزكاة لسنة (1980م) في جمادي الآخرة لسنة(1400هـ) الموافق ابريل (1980م).

ايجابيات وسلبيات الصندوق:
أ/ ايجابيات الصندوق:
1- يعتبر صدور قانون صندوق الزكاة خطوة نحو التدرج والتسهيل في تطبيق الزكاة إحياء للشرع.
2- إدارة الصندوق عن طريق مجلس الأمناء, ابتعد به عن الروتين, كما ان عدم تبعية الزكاة الى أي جهة حكومية, منح الثقة لدافع الزكاة بأن ما يدفعه من زكاة , يذهب إلى وجهه المشروع.
3- عمل الصندوق على توعية المواطنين بالزكاة والترغيب في إخراجها.
4- وضع الصندوق الأسس والدراسات في كيفية الوصول إلى مستحقي الزكاة,وذلك بإعداد طلبات الزكاة بصورة تضمنت كثيرا من المعلومات التي تؤدي إلى معرفة مستحقي الزكاة.
5- تقدم الصندوق بكثير من المساعدات, وساهم في تخفيف آثار المجاعة الناتجة من الجفاف والتصحر.

ب/ سلبيات الصندوق:
1- (نص قانون صندوق الزكاة لسنة (1980م), على دفع الزكاة للصندوق تطوعا, وليس على سبيل الإلزام, وفي هذا خلاف للشرع, حيث أن فريضة الزكاة لا ترجع لهوى الشخص, إن شاء أعطى , وان شاء منع, بل كان يجب ان تكون الزكاة إجبارية لأنها حق للفقير لقوله تعالى: (وفي أموالهم حق للسائل والمحروم) (الذاريات19), ولقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أديتها الى رسولي, فقد برئت منها, فلك أجرها وإثمها على من بدلها) , ولقد كان للاختيار أثره على انخفاض إيرادات الزكاة المدفوعة للصندوق, حيث ان مقدار الزكاة التي دفعت منذ عام (1400هـ), وحتى عام (1404هـ), بلغ فقط مبلغ (1,416,371 جنيه), هذا إضافة الى ان جل هذا المبلغ, يعود الى زكاة البنوك الإسلامية, التي ينص قانون تأسيسها على إخراج البنك لزكاة أمواله, وواضح ان الأفراد لم يدفعوا زكاة أموالهم للصندوق, على الرغم من أن قانون الصندوق نص على إعفاء ذلك الجزء من مال أي شخص يدفع للصندوق في شكل زكاة او صدقة, من ضريبة الدخل.
2- اقتصر عدد العاملين بالصندوق على عشرة أشخاص فقط, وهو عدد بسيط لا يفي بمتابعة الجباية والرصد والتبويب, لأموال الزكاة وتوزيعها ومتابعة المستفيدين منها.
3- كانت الميزانيات المقترحة للصندوق , لا تفي حقيقة بسد متطلبات الزكاة , ويمكن ان نبرهن على ضعف الميزانية, بتوضيح الميزانية المقترحة لصندوق الزكاة للدورة الثالثة لسنة (1403هـ), والتي أجازها مجلس أمناء صندوق الزكاة للدورة الثالثة لسنة (1403هـ), وذلك بتاريخ (18 جمادي الآخر 1403هـ), الموافق الثاني من ابريل (1983م), بلغت جملتها (37,945 جنيه) فقط.
4- اقتصر تطبيق قانون صندوق الزكاة على العاصمة القومية, دون التطبيق على الأقاليم, على الرغم من أن القانون ينص على التطبيق في جميع إنحاء البلاد, ويؤكد ذلك الميزانية المقترحة للعام (1403هـ) والتي خلت من أي اعتماد للأقاليم.
5- أوكل القانون مهمة إدارة الصندوق لمجلس أمناء, دون أن يتقاضى هذا المجلس رواتب أو مكافئات , بحجة أن عملهم تبرعا واحتسابا)(5).

رابعا : تجربة ديوان الزكاة:
(أ‌) ديوان الزكاة والضرائب (1405هـ – 1406هـ) العام (1985/1986)
ميزات هذا القانون:
(أميز مميزات هذا القانون, أنه ولأول مرة منذ سقوط الدولة المهدية(1886م) جعل جباية الزكاة إلزامية, على كل مسلم ومسلمة, وأعاد للدولة حقها في الولاية على الزكاة, كما أنه فرض ضريبة تكافل اجتماعي على غير المسلمين, بنفس النسبة التي شرعت بها الزكاة, وبنفس النصاب والمقدار, إلا أن هذا القانون ألغى ضرائب كثيرة بلغت حوالي العشرين نوعا من الضرائب)(6).
سلبيات المرحلة 1406هـ (1986م):
من السلبيات الواضحة في هذا القانون هو الازدواجية بين الزكاة والضرائب, فهناك ازدواجية في التطبيق, حيث انه تم الشروع في تطبيق هذا القانون في:(26/9/1984م).
وفي نفس الوقت بدأ تحصيل الضريبة لعام (1983م) , ففي عام (1984م) كانت تطبق الزكاة بالإضافة إلى ضريبة 1983م .
وهناك ازدواجية في الجهاز الإداري حيث أوكل أمر الزكاة لذات الجهاز الذي يطبق الضرائب , دون زيادة في حصيلة المعرفة لشئون الزكاة , مع وجود الظلال القاتمة التي تلقيها الضريبة على الفرد, ودون زيادة حتى في القوى البشرية).
المرحلة 1406ه – 1986 م :
في العام 1406هـ – 986م تم فصل الزكاة عن الضرائب وتأسيس ديوان قائم بذاته للزكاة وله شخصيته الاعتبارية . وتم تعيين أول أمين عام للزكاة فى يناير 1988م بواسطة مجلس الوزراء تبع الديوانً لوزارة الرعاية الاجتماعية وانتشر في جميع ولايات السودان وتم تفعيل الجباية والمصارف أنشأت لها إدارات متخصصة على مستوى الأقاليم – اما الهيكل الإداري فى ذلك الوقت فكان يضم عدة إدارات مركزية ووحدات هى :-
1/ الإدارة العامة للجباية .
2/ الإدارة العامة للمصارف.
3/الإدارة العامة للبحوث والتوعية والتدريب .
4/ إدارة المؤسسات ودور الرعاية الاجتماعية .
5/إدارة الشئون المالية .
6/إدارة الشئون الإدارية .
7/قسم الحالات العاجلة.
8/ قسم النازحين.
9/ قسم المعوقين .

(ب‌) قانون الزكاة لسنة 1410هـ – 1990م:
اهم ميزات هذا القانون:
1- أمن وأكد على إلزامية دفع الزكاة.
2- فصل الزكاة عن الضرائب, وأنشأ للزكاة ديوانا قائما بذاته, به شخصية اعتبارية , وصفة تعاقبية, وهيكل إداري قائم بذاته, على رأسه أمين عام يعينه مجلس الوزراء مباشرة.
3- ابتعد عن وزارة المالية وصار تابعا شكلا لوزارة الرعاية الاجتماعية آنذاك مع الاستقلال الداخلي التام.
4- امتد لجميع أقاليم السودان, ومن ثم فإن هذا القانون حدد القبلة الصحيحة ووضع الطريق وثبت الخطى وبدأت المسيرة الحقيقية لديوان الزكاة).(7)
(ج) قانون الزكاة لسنة (2001م): أهم مميزات القانون:-
1- التأكيد على إلزامية الزكاة, ومسئولية الدولة عنها والتركيز على استقلالية المؤسسة التي ترعاها (الزكاة) , عن البيروقراطية الحكومية , فمنحتها حق إصدار اللوائح الإدارية والمالية وغيرها.
2- عمل قانون (2001م) على سد الثغرات التي ظهرت عند التطبيق وتم علاجها, وهي التي كانت في القانون السابق مبهمة أو معممة, وأصبحت نصوص صريحة ومحكمة وشاملة, ويظهر ذلك كما في تعريف زكاة المال المستفاد.
3- أدخل قانون عام(2001م) أموال الدولة المستثمرة ضمن الاموال التي تجب فيها الزكاة , وبما في ذلك استثمارات الدولة في مجال النفط والمعادن وغيرها.
4- لم يترك القانون نسبة ال(20%) من الزكاة للمكلف ليدفعها او يصرفها بنفسه على الفقراء والمساكين والمستحقين , وإنما تولى اخذ الزكاة كاملة دون ترك أي نسبة ,كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه يفعلون.
إن الزكاة في السودان منذ عهد السلطنة الزرقاء وبعدها مملكتي (تقلي) و(المسبعات) ثم عهد (الدولة المهدية) وحتى الآن ظل أمر الزكاة في السودان – بخلاف فترة الاستعمار (1889م) الحكم الانكليزي بقيادة كتشنر ثم الحكم الوطني الذي تلاه(1956م) – يتم تطبيقها بواسطة ولي الأمر أي أن الزكاة كان سلطانيا, وقد اتضح ذلك جليا في عهد الدولة (المهدية), حيث كان المهدي يقوم على امر الزكاة بنفسه وبحمد الله ومنذ تطبيق الشريعة الإسلامية في السودان أصبح أمر الزكاة أمرا سلطانيا إلزاميا مرة أخرى, ونستصحب في ختام هذا الباب الفتوى الصادرة في الندوة الأولى (14- 16 ربيع 1409هـ) المتعلقة بقضايا الزكاة المعاصرة , بالقاهرة الصادرة حول إلزامية الزكاة وتطبيقها من ولي الامر والتي جاء بها فيها:-
أ‌) دعوة الحكومات في البلاد الإسلامية الى العمل الجاد لتطبيق الشريعة الإسلامية في مجالات الحياة كافة, ومن ذلك إنشاء مؤسسات خاصة لجمع الزكاة وصرفها في مصارفها الشرعية, على ان تكون لهذه المؤسسات ميزانية مستقلة, في مواردها ومصارفها, عن الميزانية العامة للدولة, أما في البلاد غير الإسلامية فالبديل هو الجمعيات التي تعنى بشئون الزكاة.
ب‌) دعوة الحكومات الإسلامية لإصدار التشريعات الكفيلة بإقامة مؤسسات الزكاة, التي يشرف عليها أهل الدين , والأمانة , والكفاية والعلم .
ت‌) دعوة الحكومات التي تضمن تشريعاتها الضريبية نصوصا تقضي بحسم الزكاة مهما بلغ من الضرائب المقررة قانونا.
ث‌) دعوة الحكومات التي تطبق فريضة الزكاة , إلى الأخذ برأي القائلين من الفقهاء المعاصرين , بفرض ضريبة تكافل اجتماعي , على مواطنيها غير المسلمين , بمقدار الزكاة, وان تكون هذه الضرائب الموازية للزكاة, موردا لتحقيق التكافل الاجتماعي العام, الذي يشمل جميع المواطنين, ممن يعيش في ظل دولة الإسلام).
خلاصة :
طور عمل الزكاة ليصبح له أهداف واضحة وإستراتيجية تبنى على أسس علمية وعملية بمشاركة أهل خبرة وكفاءة وخطط وبرامج واسعة وجهات إشرافية لتنفيذها . فأنشأ المجلس الأعلى لأمناء الزكاة كما تم تكوين لجنة للفتوى تبحث المستجدات في فقه وتطبيق الزكاة ولجنة للمظالم ، وأمين للزكاة بسلطات واسعة ،يعينه رئيس الجمهورية ،يعاونه أربعة نواب في دوائر الجباية والمصارف وخطاب الزكاة والشئون المالية والإدارية وإدارات أخرى متخصصة أمناء للزكاة بالولايات .

المصادر و المراجع:
(1) الأستاذ : محمد إبراهيم محمد : ورقة محاضرة مؤتمر الزكاة الثالث (ماليزيا) في (13 جمادى الآخرة 1410ه ) ص (1).
(2) الأستاذ : محمد إبراهيم محمد : مرجع سابق (13 جمادى الآخرة 1410ه ) ص (1).
(3) محمد البشير عبدالقادر : نظام الزكاة في السودان ص (1).
(4) الأستاذ : محمد إبراهيم محمد : مرجع سابق ص (1).
(5) محمد البشير عبدالقادر : نظام الزكاة في السودان ص (44-43-42).
(6) الأستاذ : محمد إبراهيم محمد:ورقة محاضرة مؤتمر الزكاة الثالث في 13 جمادى الآخرة 1410ه – 1990م ص (6-5).
(7) الأستاذ : محمد إبراهيم محمد:ورقة محاضرة مؤتمر الزكاة الثالث في 13 جمادى الآخرة 1410ه – 1990م ص (7)
(8) كتاب الفتاوى : الجزء الأول – ديوان الزكاة – ص (10-11) .